فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (91):

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلًا آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال: {وإذا قيل لهم} أي هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم {آمنوا بما أنزل الله} أي الملك الذي له الأمر كله مطلقًا.
وعلى جهة العموم من الكتب والصحف.
ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم قالوا تسفيلًا لأنفسهم {نؤمن بما أنزل علينا} فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه وخصوا بعض ما أنزله.
ثم عجب من دعواهم هذه بقوله: {ويكفرون} أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراءه أي وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها، لأن وراء يراد بها تارة خلف وتارة قدام، فإذا قلت: زيد ورائي، صح أن يراد في المكان الذي أورايه أنا بالنسبة غلى من خلفي فيكون أمامي، وأن يراد في المكان الذي هو متوار عني فيكون خلفي.
وقال الحرالي: وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث إنه لا يعلم ويكون أمامًا في المكان. انتهى.
وهو أي والحال أن ذلك الذي وراءه هو الحق الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه (أل) قال الحرالي: فأنهاه لغاية الحق بكلمة (أل) لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو الحق وما ثبت وقتًا ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة فإنما هو حق منكر اللفظ، فإن بين المعروف بكلمة (أل) وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى. انتهى.
مصدقًا لما معهم فصح أنهم كافرون بما عندهم، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء.
ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض فقال: {قل فلم} أي تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم: لم {تقتلون أنبياء الله} الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتًا الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية من قبل وفي صيغة المضارع تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم، لأن التقدير: وتُصرّون على قتلهم من بعد؛ وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا منهم، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة، وسمّه أهل خيبر.
ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال: {إن كنتم مؤمنين} إشعارًا بأن مثل ذلك لا يصدر من متلبس بالإيمان. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا النوع أيضًا من قبائح أفعالهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني به اليهود: {آمنوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة ما بمعنى الذي تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة ما تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك: {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن.
وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلًا من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلًا من عند الله وجب الإيمان به، فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض.
أما قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ} فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين: الأول: ما دل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الحق} أنه لما ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجبًا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال.
الثاني: ما دل عليه قوله: {مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ} وتقريره من وجهين، الأول: أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علمًا ولا استفاد من أستاذ، فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلًا علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل.
الثاني: أن القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، وإلا لم يكن القرآن مصدقًا للتوراة بل مكذبًا لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا قِيلَ} من جانب المؤمنين {لَهُمْ} أي لليهود، وتقديمُ الجار والمجرور قد مر وجهه لاسيما في لام التبليغ {آمنوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} من الكتب الإلهية جميعًا والمرادُ به الأمرُ بالإيمان بالقرآن لكن سُلك مسلكُ التعميم إيذانًا بتحتُّم الامتثالِ من حيث مشاركتُه لما آمنوا به فيما في حيِّز الصلةِ وموافقتِه له في المضمون وتنبيهًا على أن الإيمانَ بما عداه من غير إيمانٍ به ليس بإيمان بما أنزل الله: {قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي نستمر على الإيمان {بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوراةَ وما نزَلَ على أنبياءِ بني إسرائيلَ لتقرير حكمَها، ويدسُّون فيه أن ما عدا ذلك غيرُ منزّلٍ عليهم، ومرادُهم بضمير المتكلم إما أنفسُهم فمعنى الإنزالِ عليهم تكليفُهم بما في المنزَّل من الأحكام، وإما أنبياءُ بني إسرائيلَ وهو الظاهرُ لاشتماله على مزيَّة الإيذانِ بأن عدمَ إيمانِهم بالفُرقان لما مرَّ من بغيهم وحَسَدِهم على نزوله على من ليس منهم، ولأن مرادَهم بالموصول وإن كان هو التوراةُ وما في حكمها خاصةً لكنّ إيرادَها بعنوان الإنزالِ عليهم مبنيٌّ على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريضِ كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزَمُ من مغايرَةَ القرآنِ لما أُنزل عليهم حسبما يُعرب عنه قوله عز وجل: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} عدمُ كونِهم مكلَّفين بما فيه كما يلزَم عدمَ كونِه نازلًا على واحد من بني إسرائيلَ على الوجه الأخير، وتجريدُ الموصول عن الإضمارِ عما عرَّضوا به تعسُّفٌ لا يخفى، والوراء في الأصل مصدر جُعل ظرفًا ويضاف إلى الفاعل فيرادُ به ما يتوارى به وهو خلْفُه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامُه، والجملةُ حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المرادُ مجردَ بيانِ أن إفرادَ إيمانِهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفي إيمانِهم بما وراءه، بل بيانِ أن ما يدّعون من الإيمان ليس بإيمانٍ بما أنزل عليهم حقيقةً فإن قولَه عز اسمُه: {وَهُوَ الحق} أي المعروفُ بالحقيقة بأن يُخَصَّ به اسمُ الحقِ على الإطلاق، حال من فاعل يكفُرون وقوله تعالى: {مُصَدّقًا} حالٌ مؤكدة لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء، وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ، أي أُحِقُّه مصدِّقًا {لّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفُرون بالقرآن والحال أنه حقٌّ مصدِّق لما آمنوا به فيلزمهم الكفرُ بما آمنوا به ومآ لُه أنهم ادَّعَوا الإيمانَ بالتوراة والحال أنهم يكفُرون بما يلزَمُ من الكفر به الكفرُ بها. اهـ.

.قال الفخر:

إنه سبحانه وتعالى بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر، وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقًا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفرًا فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {قل فلم تقتلون} الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على {فلم} لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم. وخاطب الله من حضر محمدًا صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء {تقتلون} بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله: {من قبل} وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة الكامل أخذ مضمر.
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر

وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع. وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء. اهـ.

.قال الماوردي:

{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ} معناه فلم قتلتم، فعبر عن الفعل الماضي بالمستقبل، وهذا يجوز، فيما كان بمنزلة الصفة، كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي ما تلت، وقال الشاعر:
وإني لآتيكم بشكر ما مضى ** من الأمر واستحباب ما كان في غد

يعني ما يكون في غد، وقيل معناه: فلم ترضون بقتل أنبياء الله، إن كنتم مؤمنين؟. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وتقتلون بمعنى: قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره.
وأنشدوا في ذلك:
شهدَ الحطيئةُ حين يلقى رَبَّه ** أنَ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ

أراد: يشهد. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ} تبكيتًا لهم من جهة الله عز من قائل ببيان التناقضِ بين أقوالِهم وأفعالِهم بعد بيانِ التناقضِ في أقوالهم {فَلَمْ} أصلُه لِمَا حُذفت عنه الألفُ فرقًا بين الاستفهامية والخبرية {تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ} الخطابُ للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراضُ على أسلافهم اعتراضًا على أخلافِهم، وصيغةُ الاستقبال لحكايةَ الحالِ الماضية، وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعُمون فلأيِّ شيء كنتم تقتلون أنبياءَ الله من قبلُ وهو فيها حرامٌ، وقرئ: {أنبئاءَ الله} مهموزًا، وقولُه تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكريرٌ للاعتراض لتأكيد الإلزامِ وتشديدِ التهديدِ أي إن كنتم مؤمنين فلمَ تقتلونهم، وقد حُذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حُذف ثقةً بما أُثبتَ في الأخرى وقيل: لا حذفَ فيه بل تقديمُ الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأي الكوفيين وأبي زيد وقيل: {إن} نافية أي ما كنتم مؤمنين وإلا لم قتلتموهم؟. اهـ.

.قال الطبري:

فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟
قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض البصريين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما قال جل ثناؤه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [سورة البقرة: 102]، أي: ما تلت، وكما قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ** فمضيت عنه وقلت لا يعنيني

يريد بقوله: ولقد أمر ولقد مررت.
واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله: فمضيت عنه، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن فعل ويفعل قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى ** من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد

يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر

يعني: يشهد. وكما قال الآخر:
فما أضحي ولا أمسيت إلا ** أراني منكم في كَوَّفان

فقال: أضحي، ثم قال: ولا أمسيت.
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ** ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا

فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام: إذا نظرت في سيرة عمر، لم تجده يسيء.
المعنى: لم تجده أساء. فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل. فلذلك صلحت{من قبل} مع قوله: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}.
قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتولوهم على ذلك ورضوا به، فنسب القتل إليهم.
قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل- بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور- بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا- على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}، إذْ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم- على نحو الذي بينا- جاز أن يقال: {من قبل}، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل؟ وكان معلوما بأن قوله: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}، إنما هو خبر عن فعل سلفهم.
وتأويل قوله: {من قبل}، أي: من قبل اليوم.
وأما قوله: {إن كنتم مؤمنين}، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم- إن كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. لأنهم كانوا لأوائلهم- الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم: نؤمن بما أنزل علينا- متولين، وبفعلهم راضين. فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم. اهـ.